فصل: الْمَسْأَلَةُ السّادِسَةُ (حُكْمُ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [حُكْمُ مَا يَفْضُلُ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ تَطَهُّرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَسْآرِ الطُّهْرِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ أَسْآرَ الطُّهْرِ طَاهِرَةٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِسُؤْرِ الْمَرْأَةِ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَطَهَّرَ بِسُؤْرِ الرَّجُلِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِسُؤْرِ الْمَرْأَةِ مَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَطَهَّرَ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَشْرَعَا مَعًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ وَإِنْ شَرَعَا مَعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا اخْتِلَافُ الْآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ آثَارٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّانِي: حَدِيثُ مَيْمُونَةَ «أَنَّهُ اغْتَسَلَ مِنْ فَضْلِهَا».
وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ الْحَكَمِ الْغِفَارِيِّ «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، وَلَكِنْ يَشْرَعَانِ مَعًا».
فَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَمَذْهَبَ الْجَمْعِ فِي بَعْضٍ، وَالتَّرْجِيحِ فِي بَعْضٍ، أَمَّا مَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ اغْتِسَالِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَزْوَاجِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ الصِّحَاحُ عَلَى تَخْرِيجِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَغْتَسِلَا مَعًا أَوْ يَغْتَسِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِفَضْلِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْمُغْتَسِلَيْنِ مَعًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُغْتَسِلٌ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ، وَصَحَّحَ حَدِيثَ مَيْمُونَةَ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ وَرَجَّحَهُ عَلَى حَدِيثِ الْغِفَارِيِّ - فَقَالَ بِطُهْرِ الْأَسْآرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا مَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ الْغِفَارِيِّ عَلَى حَدِيثِ مَيْمُونَةَ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ - وَجَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ الْغِفَارِيِّ وَحَدِيثِ اغْتِسَالِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَزْوَاجِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الِاغْتِسَالِ مَعًا وَبَيْنَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَحَدُهُمَا بِفَضْلِ الْآخَرِ وَعَمِلَ عَلَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَقَطْ - أَجَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَطَهَّرَ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَتَطَهَّرَ هُوَ مِنْ فَضْلِ طُهْرِهَا، وَأَجَازَ أَنْ تَتَطَهَّرَ هِيَ مِنْ فَضْلِ طُهْرِهِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا مَا خَلَا حَدِيثَ مَيْمُونَةَ، فَإِنَّهُ أَخَذَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْغِفَارِيِّ، وَحَدِيثُ غُسْلِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَزْوَاجِهِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَيَكُونُ فِيهِ زِيَادَةٌ، وَهِيَ: أَنْ لَا تَتَوَضَّأَ الْمَرْأَةُ أَيْضًا بِفَضْلِ الرَّجُلِ، لَكِنْ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، لَكِنْ قَدْ عَلَّلَهُ كَمَا قُلْنَا بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ قَالَ فِيهِ: أَكْثَرُ ظَنِّي أَوْ أَكْثَرُ عِلْمِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ حَدَّثَنِي.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُجِزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَطَهَّرَ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ وَلَا يَشْرَعَانِ مَعًا، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَّا حَدِيثُ الْحَكَمِ الْغِفَارِيِّ وَقَاسَ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ.
وَأَمَّا مَنْ نَهَى عَنْ سُؤْرِ الْمَرْأَةِ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ فَقَطْ، فَلَسْتُ أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إِلَّا أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَحْسَبُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

.الْمَسْأَلَةُ السّادِسَةُ [حُكْمُ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ]:

صَارَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ بَيْنِ مُعْظَمِ أَصْحَابِهِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَى إِجَازَةِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ مَاءٍ؟
فَقَالَ: مَعِي نَبِيذٌ فِي إِدَاوَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبُبْ. فَتَوَضَّأَ بِهِ، وَقَالَ: شَرَابٌ وَطَهُورٌ»
وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الصَّحَابَةِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ. وَرَدَّ أَهْلُ الْحَدِيثِ هَذَا الْخَبَرَ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ لِضَعْفِ رُوَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَوْثَقَ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِرَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} قَالُوا: فَلَمْ يَجْعَلْ هَهُنَا وَسَطًا بَيْنَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ، وَبُقُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذَا قَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ اسْمُ الْمَاءِ، وَالزِّيَادَةُ لَا تَقْتَضِي نَسْخًا فَيُعَارِضَهَا الْكِتَابُ، لَكِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ.

.الْبَابُ الرَّابِعُ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وَاتَّفَقُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالرِّيحِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ لِصِحَّةِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ إِذَا كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ تَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الْقَوَاعِدِ لِهَذَا الْبَابِ.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [خُرُوجُ نَجَسٍ مِنَ الْجَسَدِ]:

اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْجَسَدِ مِنَ النَّجَسِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
فَاعْتَبَرَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ الْخَارِجَ وَحْدَهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ خَرَجَ وَعَلَى أَيِّ جِهَةٍ خَرَجَ، وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ، وَلَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ السَّلَفُ فَقَالُوا: كُلُّ نَجَاسَةٍ تَسِيلُ مِنَ الْجَسَدِ وَتَخْرُجُ مِنْهُ يَجِبُ مِنْهَا الْوُضُوءُ كَالدَّمِ وَالرُّعَافِ الْكَثِيرِ، وَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ إِلَّا الْبَلْغَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ إِذَا مَلَأَ الْفَمَ فَفِيهِ الْوُضُوءُ. وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَسِيرَ مِنَ الدَّمِ إِلَّا مُجَاهِدٌ. وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ آخَرُونَ الْمَخْرَجَيْنِ الذَّكَرَ وَالدُّبُرَ، فَقَالُوا: كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ فَهُوَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَرَجَ مِنْ دَمٍ أَوْ حَصًا أَوْ بَلْغَمٍ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ خَرَجَ، كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَرَضِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَاعْتَبَرَ قَوْمٌ آخَرُونَ الْخَارِجَ وَالْمَخْرَجَ وَصِفَةَ الْخُرُوجِ، فَقَالُوا: كُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِمَّا هُوَ مُعْتَادٌ خُرُوجُهُ وَهُوَ الْبَوْلُ، وَالْغَائِطُ، وَالْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَالرِّيحُ، إِذَا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَهُوَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَلَمْ يَرَوْا فِي الدَّمِ وَالْحَصَاةِ وَالدُّودِ وُضَوْءًا، وَلَا فِي السَّلَسِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ وَجُلُّ أَصْحَابِهِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَرِيحٍ وَمَذْيٍ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَلِتَظَاهُرِ الْآثَارِ بِذَلِكَ. تَطَرَّقَ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ إِنَّمَا عُلِّقَ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عَلَى مَا رَآهُ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ إِنَّمَا عُلِّقَ بِهَذِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا أَنْجَاسٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ لِكَوْنِ الْوُضُوءِ طَهَارَةً، وَالطَّهَارَةُ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهَا النَّجَسُ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ أَيْضًا إِنَّمَا عُلِّقَ بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنْ هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، وَيَكُونُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ الْمَحْمُولِ عَلَى خُصُوصِهِ، فَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِهَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، وَاخْتَلَفَا أَيُّ عَامٍّ هُوَ الَّذِي قُصِدَ بِهِ؟
فَمَالِكٌ يُرَجِّحُ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ يُحْمَلَ الْخَاصُّ عَلَى خُصُوصِهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَالشَّافِعِيُّ مُحْتَجٌّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَخْرَجُ لَا الْخَارِجُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنَ الرِّيحِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَسْفَلَ، وَعَدَمِ إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ فَوْقٍ وَكِلَاهُمَا ذَاتٌ وَاحِدَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الْمَخْرَجَيْنِ، فَكَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَخْرَجِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الرِّيحَيْنِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصِّفَةِ وَالرَّائِحَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ هُوَ الْخَارِجُ النَّجِسُ لِكَوْنِ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرَةً فِي الطَّهَارَةِ، وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً فَإِنَّ فِيهَا شَبَهًا مِنَ الطَّهَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ (أَعْنِي: طَهَارَةَ النَّجَسِ) وَبِحَدِيثِ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَتَوَضَّأَ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ إِيجَابِهِمَا الْوُضُوءَ مِنَ الرُّعَافِ وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْخَارِجَ النَّجِسَ.
وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى جِهَةِ الْمَرَضِ لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ لِلْمُسْتَحَاضَةِ، وَالِاسْتِحَاضَةُ مَرَضٌ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَأَى أَنَّ الْمَرَضَ لَهُ هَهُنَا تَأْثِيرٌ فِي الرُّخْصَةِ قِيَاسًا عَلَى مَا رُوِيَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَمْ تُؤْمَرْ إِلَّا بِالْغُسْلِ فَقَطْ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ هَذَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمُخْتَلَفٌ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِيهِ (أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ) وَلَكِنْ صَحَّحَهَا أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ يَغْلِبُهُ الدَّمُ مِنْ جُرْحٍ وَلَا يَنْقَطِعُ، مِثْلَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [النَّوْمُ نواقض الوضوء]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّوْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّهُ حَدَثٌ، فَأَوْجَبُوا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْوُضُوءَ، وَقَوْمٌ رَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَلَمْ يُوجِبُوا مِنْهُ الْوُضُوءَ إِلَّا إِذَا تُيُقِّنَ بِالْحَدَثِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الشَّكَّ، وَإِذَا شَكَّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَعْتَبِرُ الشَّكَّ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ كَانَ يُوكِلُ بِنَفْسِهِ إِذَا نَامَ مَنْ يَتَفَقَّدُ حَالَهُ (أَعْنِي: هَلْ يَكُونُ مِنْهُ حَدَثٌ أَمْ لَا؟
) وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّوْمِ الْقَلِيلِ الْخَفِيفِ وَالْكَثِيرِ الْمُسْتَثْقِلِ، فَأَوْجَبُوا فِي الْكَثِيرِ الْمُسْتَثْقِلِ الْوُضُوءَ دُونَ الْقَلِيلِ، وَعَلَى هَذَا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَالْجُمْهُورُ. وَلَمَّا كَانَتْ بَعْضُ الْهَيْئَاتِ يَعْرِضُ فِيهَا الِاسْتِثْقَالُ مِنَ النَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْحَدَثِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ سَاجِدًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، طَوِيلًا كَانَ النَّوْمُ أَوْ قَصِيرًا. وَمَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي مَذْهَبِهِ فِي الرَّاكِعِ، فَمَرَّةً قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْقَائِمِ، وَمَرَّةً قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ السَّاجِدِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: عَلَى كُلِّ نَائِمٍ كَيْفَمَا نَامَ الْوُضُوءُ إِلَّا مَنْ نَامَ جَالِسًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا وُضُوءَ إِلَّا عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا. وَأَصْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ هَهُنَا أَحَادِيثَ يُوجِبُ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ وُضَوْءٌ أَصْلًا، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ إِلَى مَيْمُونَةَ فَنَامَ عِنْدَهَا حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» وَمَا رُوِيَ أَيْضًا «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَنَامُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ» وَكُلُّهَا آثَارٌ ثَابِتَةٌ، وَهَهُنَا أَيْضًا أَحَادِيثُ يُوجِبُ ظَاهِرُهَا أَنَّ النُّوَّمَ حَدَثٌ، وَأَبْيَنُهَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ، وَلَا نَنْزِعَهَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ» فَسَوَّى بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالنَّوْمِ، صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ النَّوْمَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَكَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرُ آيَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ. فَلَمَّا تَعَارَضَتْ ظَوَاهِرُ هَذِهِ الْآثَارِ ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مَذْهَبَيْنِ: مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ، وَمَذْهَبَ الْجَمْعِ، فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ إِمَّا أَسْقَطَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ أَصْلًا عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُسْقِطُهُ وَإِمَّا أَوْجَبَهُ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُوجِبُهُ أَيْضًا (أَعْنِي: عَلَى حَسَبِ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُوجِبَةِ، أَوْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُسْقِطَةِ) وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ حَمَلَ الْأَحَادِيثَ الْمُوجِبَةَ لِلْوُضُوءِ مِنْهُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالْمُسْقِطَةَ لِلْوُضُوءِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَهُوَ كَمَا قُلْنَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ مَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى أَنِ اسْتَثْنَى مِنْ هَيْئَاتِ النَّائِمِ الْجُلُوسَ فَقَطْ، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ (أَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَامُونَ جُلُوسًا وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ وَيُصَلُّونَ). وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النَّوْمِ وَالِاضْطِجَاعِ فَقَطْ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» وَالرِّوَايَةُ بِذَلِكَ ثَابِتَةٌ عَنْ عُمَرَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمَّا كَانَ النَّوْمُ عِنْدَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ حَيْثُ كَانَ غَالِبًا سَبَبًا لِلْحَدَثِ، رَاعَى فِيهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: الِاسْتِثْقَالَ أَوِ الطُّولَ أَوِ الْهَيْئَةَ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا خُرُوجُ الْحَدَثِ غَالِبًا لَا الطُّولَ وَلَا الِاسْتِثْقَالَ، وَاشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْهَيْئَاتِ الَّتِي لَا يَكُونُ خُرُوجُ الْحَدَثِ مِنْهَا غَالِبًا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [لَمْسُ النِّسَاءِ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ بِالْيَدِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْحَسَّاسَةِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمَسَ امْرَأَةً بِيَدِهِ مُفْضِيًا إِلَيْهَا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حِجَابٌ وَلَا سِتْرٌ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَبَّلَهَا، لِأَنَّ الْقُبْلَةَ عِنْدَهُمْ لَمْسٌ مَا، سَوَاءٌ الْتَذَّ أَمْ لَمْ يَلْتَذَّ وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، إِلَّا أَنَّهُ مَرَّةً فَرَّقَ بَيْنَ اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ، فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ عَلَى اللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ، وَمَرَّةً سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَمَرَّةً أَيْضًا فَرَّقَ بَيْنَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالزَّوْجَةِ، فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ لَمْسِ الزَّوْجَةِ دُونَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَمَرَّةً سَوَّى بَيْنَهُمَا. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنَ اللَّمْسِ إِذَا قَارَنَتْهُ اللَّذَّةُ أَوْ قَصْدُ اللَّذَّةِ. فِي تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَعَ بِحَائِلٍ أَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ بِأَيِّ عُضْوٍ اتَّفَقَ مَا عَدَا الْقُبْلَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا لَذَّةً فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، وَنَفَى قَوْمٌ إِيجَابَ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِكُلٍّ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِلَّا اشْتِرَاطَ اللَّذَّةِ فَإِنِّي لَا أَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اشْتَرَطَهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اشْتِرَاكُ اسْمِ اللَّمْسِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُهُ مَرَّةً عَلَى اللَّمْسِ الَّذِي هُوَ بِالْيَدِ، وَمَرَّةً تُكَنِّي بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ. فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ اللَّمْسَ الْمُوجِبَ لِلطَّهَارَةِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ هُوَ الْجِمَاعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ اللَّمْسُ بِالْيَدِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، فَاشْتَرَطَ فِيهِ اللَّذَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ فَلَمْ يَشْتَرِطِ اللَّذَّةَ فِيهِ، وَمَنِ اشْتَرَطَ اللَّذَّةَ فَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ مَا عَارَضَ عُمُومَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْمِسُ عَائِشَةَ عِنْدَ سُجُودِهِ بِيَدِهِ وَرُبَّمَا لَمَسَتْهُ. وَخَرَّجَ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَدِيثَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَقُلْتُ: مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ؟
فَضَحِكَتْ»
قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الْحَدِيثُ وَهَّنَهُ الْحِجَازِيُّونَ وَصَحَّحَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَإِلَى تَصْحِيحِهِ مَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، قَالَ: وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْبَدِ بْنِ نَبَاتَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ مَعْبَدِ بْنِ نَبَاتَةَ فِي الْقُبْلَةِ لَمْ أَرَ فِيهَا وَلَا فِي اللَّمْسِ وُضُوءًا. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنَ اللَّمْسِ بِالْيَدِ بِأَنَّ اللَّمْسَ يَنْطَلِقُ حَقِيقَةً عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ، وَيَنْطَلِقُ مَجَازًا عَلَى الْجِمَاعِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ. وَلِأُولَئِكَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْمَجَازَ إِذَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَجَازِ مِنْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَالْحَالِ فِي اسْمِ الْغَائِطِ الَّذِي هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْحَدَثِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَجَازٌ مِنْهُ عَلَى الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَقِيقَةٌ. وَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّمْسَ وَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ بِالسَّوَاءِ أَوْ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ أَنَّهُ أَظَهَرُ عِنْدِي فِي الْجِمَاعِ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ كَنَّى بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْمَسِّ عَنِ الْجِمَاعِ وَهُمَا فِي مَعْنَى اللَّمْسِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ يُحْتَجُّ بِهَا فِي إِجَازَةِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ دُونَ تَقْدِيرِ تَقْدِيمٍ فِيهَا وَلَا تَأْخِيرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ، وَتَرْتَفِعُ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي بَيْنَ الْآثَارِ وَالْآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا مَنْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ اللَّمْسَيْنِ مَعًا فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا خَاطَبَتْ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ إِنَّمَا تَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الِاسْمُ لَا جَمِيعَ الْمَعَانِي الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ فِي كَلَامِهِمْ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [مَسُّ الذَّكَرِ]:

مَسُّ الذَّكَرِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الْوُضُوءَ فِيهِ كَيْفَمَا مَسَّهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ فِيهِ وُضُوءًا أَصْلًا، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ سَلَفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَمَسَّهُ بِحَالٍ أَوْ لَا يَمَسَّهُ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَهَؤُلَاءِ افْتَرَقُوا فِيهِ فِرَقًا:
فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَلْتَذَّ أَوْ لَا يَلْتَذَّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَمَسَّهُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَوْ لَا يَمَسَّهُ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ مَعَ اللَّذَّةِ وَلَمْ يُوجِبُوهُ مَعَ عَدَمِهَا، وَكَذَلِكَ أَوْجَبَهُ قَوْمٌ مَعَ الْمَسِّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ وَلَمْ يُوجِبُوهُ مَعَ الْمَسِّ بِظَاهِرِهَا، وَهَذَانِ الِاعْتِبَارَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَكَأَنَّ اعْتِبَارَ بَاطِنِ الْكَفِّ رَاجِعٌ إِلَى اعْتِبَارِ سَبَبِ اللَّذَّةِ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ مِنْهُ مَعَ الْعَمْدِ وَلَمْ يُوجِبُوهُ مَعَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَأَصْحَابِهِ. وَرَأَى قَوْمٌ أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّهِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبٌ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا الَّذِي اسْتَقَرَّ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهِ مُضْطَرِبَةٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيهِ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ مِنْ طَرِيقِ بُسْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَصَحَّحَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَضَعَّفَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُصَحِّحُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ السَّكَنِ أَيْضًا يُصَحِّحُهُ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا مُسْلِمٌ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي الْمُعَارِضُ لَهُ حَدِيثُ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ يَتَوَضَّأَ؟
فَقَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ؟
»
خَرَّجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، فَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَحَدَ مَذْهَبَيْنِ: إِمَّا مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَوِ النَّسْخِ، وَإِمَّا مَذْهَبَ الْجَمْعِ، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ بُسْرَةَ أَوْ رَآهُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ بِإِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ أَسْقَطَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ، وَمَنْ رَامَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْهُ فِي حَالٍ وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي حَالٍ، أَوْ حَمَلَ حَدِيثَ بُسْرَةَ عَلَى النَّدْبِ، وَحَدِيثَ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ. وَالِاحْتِجَاجَاتُ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي تَرْجِيحِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَجَّحَهُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَكِنْ نُكْتَةُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [أَكْلُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ]:

اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى سُقُوطِهِ، إِذْ صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلَكِنْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَطَائِفَةٌ غَيْرُهُمْ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ فَقَطْ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ بِذَلِكَ عَنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

.الْمَسْأَلَةُ السّادِسَةُ [الضَّحِكُ فِي الصَّلَاةِ]:

شَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ لِمُرْسَلِ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا ضَحِكُوا فِي الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. وَرَدَّ الْجُمْهُورُ هَذَا الْحَدِيثَ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا وَلِمُخَالَفَتِهِ لِلْأُصُولِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَنْقُضُهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ صَحِيحٌ.

.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ [حَمْلُ الْمَيِّتِ وَزَوَالُ الْعَقْلِ]:

وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ فَأَوْجَبُوا الْوُضُوءَ مِنْ حَمْلِ الْمَيِّتِ، وَفِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ، مِنْ قِبَلِ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى النَّوْمِ، أَعْنِي أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلْحَدَثِ غَالِبًا، وَهُوَ الِاسْتِثْقَالُ، فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ ذَهَابُ الْعَقْلِ سَبَبًا لِذَلِكَ. فَهَذِهِ هِيَ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا، وَالْمَشْهُورَاتُ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ نَصِيرَ إِلَى الْبَابِ الْخَامِسِ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُشْتَرَطُ هَذِهِ الطَّهَارَةُ فِي فِعْلِهَا:

الصَّلَاةُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ» فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ لِمَكَانِ هَذَا، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ أَوْ مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَفِي السُّجُودِ (أَعْنِي سُجُودَ التِّلَاوَةِ) فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا شَاذًّا. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ الْعَارِضُ فِي انْطِلَاقِ اسْمِ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَعَلَى السُّجُودِ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى صَلَاةِ الْجَنَائِزِ وَعَلَى السُّجُودِ نَفْسِهِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - اشْتَرَطَ هَذِهِ الطَّهَارَةَ فِيهِمَا. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا إِذْ كَانَتْ صَلَاةُ الْجَنَائِزِ لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَكَانَ السُّجُودُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ قِيَامٌ وَلَا رُكُوعٌ لَمْ يَشْتَرِطُوا هَذِهِ الطَّهَارَةَ فِيهِمَا.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [مَسُّ الْمُصْحَفِ]:

هَلْ هَذِهِ الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي ذَلِكَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطَهَّرُونَ هُمْ بَنُو آدَمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مَفْهُومُهُ النَّهْيُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لَا نَهْيًا، فَمَنْ فَهِمَ مِنَ {الْمُطَهَّرُونَ} بَنِي آدَمَ، وَفَهِمَ مِنَ الْخَبَرِ النَّهْيَ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا طَاهِرٌ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْخَبَرَ فَقَطْ، وَفَهِمَ مِنْ لَفْظِ {الْمُطَهَّرُونَ} الْمَلَائِكَةَ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ دَلِيلٌ لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ بَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ الْإِبَاحَةُ. وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِمَذْهَبِهِمْ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَتَبَ: لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» وَأَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا مُصَحَّفَةٌ، وَرَأَيْتُ ابْنَ الْمُفَوَّزِ يُصَحِّحُهَا إِذَا رَوَتْهَا الثِّقَاتُ، لِأَنَّهَا كِتَابُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَرُدُّونَهُمَا، وَرَخَّصَ مَالِكٌ لِلصِّبْيَانِ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [نَوْمُ وَأَكْلُ وَجِمَاعُ الْجُنُبِ الوضوء له عند إرادة فعل ذلك]:

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ عَلَى الْجُنُبِ فِي أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ دُونَ وُجُوبِهِ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى وُجُوبِهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ: «أَنَّهُ ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تُصِيبُهُ جَنَابَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ» وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى حَمْلِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ، وَالْعُدُولِ بِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِمَكَانِ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ لِإِرَادَةِ النَّوْمِ (أَعْنِي الْمُنَاسَبَةَ الشَّرْعِيَّةَ) وَقَدِ احْتَجُّوا أَيْضًا لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ، أَثْبَتُهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ، فَقَالُوا: أَلَا نَأْتِيكَ بِطُهْرٍ؟
فَقَالَ: أَأُصَلِّي فَأَتَوَضَّأُ؟
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟
فَقَالَ: مَا أَرَدْتُ الصَّلَاةَ فَأَتَوَضَّأُ»
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْخِطَابِ مِنْ أَضْعَفِ أَنْوَاعِهِ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ لَا يَمَسُّ الْمَاءَ» إِلَّا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى الْجُنُبِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، وَعَلَى الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعَاوِدَ أَهْلَهُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِإِسْقَاطِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ الطَّهَارَةِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ إِنَّمَا فُرِضَتْ فِي الشَّرْعِ لِأَحْوَالِ التَّعْظِيمِ كَالصَّلَاةِ، وَأَيْضًا فَلِمَكَانِ تَعَارُضِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «أَنَّهُ أَمَرَ الْجُنُبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُجَامِعُ ثُمَّ يُعَاوِدُ وَلَا يَتَوَضَّأُ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ مَنْعُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْجُنُبِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، وَرُوِيَ عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [الطَّوَافُ]:

ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى اشْتِرَاطِ الْوُضُوءِ فِي الطَّوَافِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى إِسْقَاطِهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ الطَّوَافِ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ حُكْمُهُ بِحُكْمِ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يُلْحَقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ الْحَائِضَ الطَّوَافَ كَمَا مَنَعَهَا الصَّلَاةَ» فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ تَسْمِيَةُ الطَّوَافِ صَلَاةً، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مَنَعَهُ الْحَيْضُ، فَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي فِعْلِهِ إِذَا ارْتَفَعَ الْحَيْضُ كَالصَّوْمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرُ]:

ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ مُتَوَضِّئٍ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَيَذْكُرَ اللَّهَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ ثَابِتَانِ، أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي جَهْمٍ قَالَ: «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّلَامَ». وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عَلِيٍّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ» فَصَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، وَصَارَ مَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ لِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى تَرْجِيحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

.كِتَابُ الْغُسْلِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الطَّهَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وَالْكَلَامُ الْمُحِيطُ بِقَوَاعِدِهَا يَنْحَصِرُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِوُجُوبِهَا، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَمَعْرِفَةِ مَا بِهِ تُفْعَلُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ - فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الطَّهَارَةِ:
وَالثَّانِي: فِي مَعْرِفَةِ نَوَاقِضِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ.
وَالْبَابُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ نَوَاقِضِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ.
فَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ؟
فَعَلَى كُلِّ مَنْ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهَا، وَدَلَائِلُ ذَلِكَ هِيَ دَلَائِلُ الْوُضُوءِ بِعَيْنِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْمِيَاهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الطَّهَارَةِ:

وَهَذَا الْبَابُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [الدَّلْكُ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ كَالْحَالِ فِي طَهَارَةِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، أَمْ يَكْفِي فِيهَا إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ، وَإِنْ لَمْ يُمِرَّ يَدَيْهِ عَلَى بَدَنِهِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ إِفَاضَةَ الْمَاءِ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَجُلُّ أَصْحَابِهِ، وَالْمُزَنِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ فَاتَ الْمُتَطَهِّرَ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ مِنْ جَسَدِهِ لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ أَنَّ طُهْرَهُ لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: اشْتِرَاكُ اسْمِ الْغُسْلِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَةِ الْغُسْلِ لِقِيَاسِ الْغُسْلِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي صِفَةِ غُسْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَمَيْمُونَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ التَّدَلُّكِ، وَإِنَّمَا فِيهَا إِفَاضَةُ الْمَاءِ فَقَطْ. فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرْفَاتٍ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ» وَالصِّفَةُ الْوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ قَرِيبَةٌ مِنْ هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِلَى آخِرِ الطُّهْرِ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَيْضًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَلْ تَنْقُضُ ضَفْرَ رَأْسِهَا لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ الْمَاءَ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ، فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ»، وَهُوَ أَقْوَى فِي إِسْقَاطِ التَّدَلُّكِ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُنَالِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِفُ لِطُهْرِهِ قَدْ تَرَكَ التَّدَلُّكَ، وَأَمَّا هَهُنَا فَإِنَّمَا حَصَرَ لَهَا شُرُوطَ الطَّهَارَةِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الطَّهَارَةِ الْوَارِدَةَ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَعَائِشَةَ هِيَ أَكْمَلُ صِفَاتِهَا، وَأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ أَرْكَانِهَا الْوَاجِبَةِ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الطُّهْرِ إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ قُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ قُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ ظَاهِرٌ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، لَا أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ مُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَطَرِيقَةُ الشَّافِعِيِّ تَغْلِيبُ ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْقِيَاسِ.
فَذَهَبَ قَوْمٌ كَمَا قُلْنَا إِلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَغَلَّبُوا ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهَا عَلَى الْوُضُوءِ، فَلَمْ يُوجِبُوا التَّدَلُّكَ، وَغَلَّبَ آخَرُونَ قِيَاسَ هَذِهِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْوُضُوءِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، فَأَوْجَبُوا التَّدَلُّكَ كَالْحَالِ فِي الْوُضُوءِ، فَمَنْ رَجَّحَ الْقِيَاسَ صَارَ إِلَى إِيجَابِ التَّدَلُّكِ، وَمَنْ رَجَّحَ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْقِيَاسِ صَارَ إِلَى إِسْقَاطِ التَّدَلُّكِ. وَأَعْنِي بِالْقِيَاسِ: قِيَاسَ الطُّهْرِ عَلَى الْوُضُوءِ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْمِ فَفِيهِ ضَعْفٌ إِذْ كَانَ اسْمُ الطُّهْرِ وَالْغُسْلِ يَنْطَلِقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.